السلاجقة في تركستان -بدولة الاستعمار السوفيتي- نشأت هذه الأسرة.. ولظروف ما هاجرت هذه الأسرة بقيادة كبيرها "سلجوق" الذي تنسب الأسرة إليه..
وبين خراسان، وبخارى، وأصبهان، تراوحت إقامتها حتى استقرت بمرو حيث هاجمها السلطان الغزنوي مسعود، ولكنه هُزم أمامها.. وأصبحت الخطبة تلقى بمرو باسم داود السلجوقي.. نجل سلجوق الكبير، وكان هذا في سنة 433هـ.
ومن مرو انتشر سلطان السلاجقة إلى الري وإلى خوارزم، وبدأ تاريخهم يظهر كقوَّة لها كيانها المستقل في العالم الإسلامي خلال القرن الخامس للهجرة.
وقد نجحوا في السيطرة على بلاد كثيرة.. كخراسان وأصبهان وهمذان وبخارى، وامتد نفوذهم حتى العراق. والتحموا بالدولة العباسية، ثم أتيحت لهم فرصة ذهبية؛ إذ استنصر بهم الخليفة العباسي "القائم" ضد ثائر شيعي يدعى "البساسيري" عجزت الخلافة العباسية عن مقاومته.
فأسرعوا إلى انتهاز الفرصة التاريخية ودخل زعيمهم طغرل بك بغداد منتصرًا على البساسيري سنة 447هـ، وكان هذا العام حدًّا فاصلًا في تاريخ السلاجقة؛ إذ اعتبر بداية عصر نفوذ السلاجقة وسيطرتهم على مصير الخلافة العباسية الكبرى.
امتاز السلاجقة الأتراك في معاملاتهم بالتدين، وكانوا مظهرًا للإنسان الفطري الذي هذبه الإسلام، وإذا ما استثنينا صورًا قليلة تحتملها الطبيعة البشرية التي لا تخلو من بعض القصور، فإن هؤلاء السادة كانوا نموذجًا طيبًا حتى في معاملتهم للخليفة العباسي الذي حفظوا له عرشه..
إنهم لم يكونوا كالذين انتصر بهم المعتصم، ولم يكونوا مثل البويهيين حينما سيطروا على الخلافة وأذلوا كبرياء الخلفاء.. أبدًا لقد احترموا الخلفاء وأجلوهم، وكان لهم-كذلك- فضل كبير في رفع راية الإسلام.
وفي مدِّ عمر الخلافة العباسية أكثر من قرنين من الزمان. كما أنهم بدءوا مرحلة جديدة من التوسع الإسلامي في اتجاه آسيا الصغرى، ويقال: إن هذا التوسع كان أحد أسباب قيام الحروب الصليبية.
ومن الظواهر المتعلقة بسياسة هؤلاء القوم الاجتماعية والفكرية.. إلغاء أشهر ملوكهم "ألب أرسلان" لنظام المخابرات، ولجوء أحد ملوكهم "نظام الملك" إلى نظام الإقطاع.. بإعطاء الشخصيات السلجوقية والشخصيات الأخرى الكبرى إقطاعات أو "أتابكيات" لحسابها الخاص.
ومن الظواهر كذلك الحملات الجهادية شبه المنتظمة التي كانت خير علاج للفوضى الداخلية. كذلك من الظواهر صراع السلاجقة المستمر ضد حركات الإسماعيلية، ونجاحهم في تقليم أظفارهم.
وبعد صفحة تاريخية رائعة من صفحات الحضارة الإسلامية امتدت بين سنوات (433- 619هـ)، قدر للسلاجقة أن يأفل نجمهم، وأن تغرب شمسهم بعد أن حكم منهم واحد وثلاثون زعيمًا سلجوقيًّا، وبعد أن قدموا للخلافة الإسلامية الكبرى أجلَّ الخدمات، وحموها من كثير من عثرات السقوط، وقدموا للحضارة الإسلامية يدًا من أروع ما قدمت الدول الإسلامية من أياد.
بيد أن السلاجقة، وقعوا، وهم يسيرون في الطريق، في أخطاء ظنوها خيرًا.. فانقلبت على دولتهم شرًّا.
لقد لجأ السلاجقة-كما ذكرنا- إلى نظام الإقطاعات، وأسندوا معظمها إلى شخصيات سلجوقية، وقد حسبوا أن هذا من شأنه أن يشغل السلاجقة عن التفكير في الحكم، وأن يرضيهم بالبعد عن السلطة.
لكن الإقطاعيين السلاجقة سرعان ما حاول كل منهم أن يكون لنفسه من إقطاعاته إمارة صغيرة حاولت كل منها الانفصال عن السلطة، وهو عكس ما كان يهدف إليه السلاجقة الحكام، وقد أدى هذا إلى تفكك وحدة السلاجقة، وإلى إجهاد السلطة السياسية الحاكمة، وإلى توزُّع الدول بين عديد من الأمراء.
كما أن هذا الخطأ أدى إلى عدول السلاجقة عن طريقة اختيار زعمائهم القديمة التي كانت تعتمد على الكفاءة.. إلى طريقة جعل الزعامة وراثية؛ نظرًا لكثرة تنازع أمراء الإقطاعات عليها.
ومن المضاعفات كذلك تهاون السلاجقة-في ظل تفككهم- أمام حركات التمرد الباطنية، لاسيما الحركة الإسماعيلية بزعامة قائدها الحسن الصباح.. وقد قدِّر لهذه الحركة أن تستنفذ طاقة كبرى من طاقات السلاجقة التي كان في الإمكان استخدامها في القضاء على حركات التفكك التي أصيبت بها الدولة أو الزعامة السلجوقية للخلافة العباسية.
وتبقى كلمة التاريخ الموحية: فإن السلطة غير الحازمة، والتي تقبل التهاون في وحدة الدول إرضاءً لبعض العناصر أو الشخصيات.. هذه السلطة ستدفع ثمن تهاونها يومًا.
إن عقال بعير يمنع من الحاكم-بغير حق- هو انتقاص لسيادة الدولة.. هكذا فهم أبو بكر-رضي الله عنه- الأمور.. وبهذا نجح في القضاء على المتمردين.
وهكذا كان يجب أن يفهم السلاجقة وغيرهم من زعماء الدول.. الذين يقبلون نصف الحكم.. أو شيئًا من الحكم دون وعي منهم بأن سيادة الدولة لا تتجزأ، وبأن أنصاف الحلول أو أرباعها.. مُقدِّمة طبيعيَّة لزوال الحكم كله.
هكذا علمنا تاريخنا الإسلامي العظيم.
الكاتب: د. عبد الحليم عويس
المصدر: كتاب (دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية)